أمنحوا الحرب فرصة في السودان د ياسر يوسف إبراهيم

أمنحوا الحرب فرصة في السودان
د ياسر يوسف إبراهيم

وصف التقرير السنوي لوكالات الأمن القومي الأمريكية الذي أطلق في مارس الماضي الحرب في السودان بأنها طويلة وممتدة ( في ظل قناعة كل طرف بتحقيق أهدافه بعيدا عن المفاوضات ووقف العدائيات ) ، وحذر التقرير من إمتداد الحرب إلي دول الجوار السوداني وذلك علي ضوء ( تلقي الأطراف المتحاربة مساعدات عسكرية من أطراف خارجية ، الأمر الذي يعيق نجاح أي مفاوضات بين الطرفين ) ..
ليست هذه هي المرة الأولي التي تصف فيها أجهزة المخابرات الأمريكية الحرب في السودان بهذا الوصف ، ففي مايو الماضي وبعد أقل من شهر من إندلاع الحرب قالت مديرة المخابرات الوطنية الأمريكية أفريل هاينز في إفادتها أمام لجنة الأمن في مجلس الشيوخ أن الحرب في السودان ( ستكون طويلة وممتدة protracted ), والتساؤل المهم هنا هو هل ما توصلت إليه أجهزة المخابرات الأمريكية هو تحليل للموقف بعد إندلاع الحرب أن هو المخطط الذي يراد للسودان أن يكون فيه ؟؟؟
لا يمكن فهم تقييمات الموقف الأمريكي للحرب في السودان بمعزل عن البحث في بعض محددات السياسة الخارجية تجاه النزاعات التي تنشأ في بعض البلدان وخاصة في أفريقيا والعالم العربي ..
في نهاية السبعينيات وفي خضم الحرب الباردة طور منظروا البنتاغون نظرية التعامل مع ما أسموه ال ( low intensity conflict) أي النزاعات المنخفضة الحدة ، والمعرفة بأنها تلك النزاعات التي تنشأ بين دولتين ، أو بين مجموعات مختلفة داخل الدولة الواحدة ، ويقوم مبدأ التعامل مع تلك النزاعات علي تغذية الصراع والتحكم فيه إستراتيجيًا بحيث يبقي في مرحلة معينة لا تنهي حربا ولا تنتج سلاما ، والهدف من ذلك هو إشغال هذه البلدان بأنفسها وإستنزاف مواردها ..
علي أن أبرز تمظهرات هذا المفهوم تتجلي في نظرية ( امنحوا الحرب فرصة ) والتي صاغها المفكر الصهيونى الأمريكي إدوارد لوتواك في العام 1999 ، حيث دعا الكاتب الولايات المتحدة الأمريكية إلي التوقف عن التدخل لحل النزاعات حول العالم ، معللا ذلك بأن الحرب إذا طالت يمكن أن تقود إلي السلام حين ينهك جميع الأطراف أو حين ينتصر أحدهما نصرا ساحقا ، وتساءل معاتبا لماذا تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية لحل نزاع قد لا يكون أيا من الطرفين مفيدا لها في سياستها الخارجية.
تبدو هذه الرؤية موغلة في الوحشية ولكنها تعبر عن الواقع بصورة واضحة لا لبس فيها ، وتخلع كل العبارات الديبلوماسية ناعمة المظهر وخشنة الجوهر ..
وهو المعني نفسه الذي تؤكده الدكتورة مونيكا تافت أستاذة السياسة العامة في كلية جون كيندي بجامعة هارفاد إذ تقول ( من الأفضل ترك الحروب تنهي نفسها بإنتصار فريق علي آخر بدلا من العمل علي التوصل إلي إتفاقات بعد مفاوضات كتلك التي راجت في التسعينات بعد إنتهاء الحرب الباردة ) ..
السودان مجالا لتطبيق النظريات :
إن النظرة الفاحصة لتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع الحرب في السودان منذ إندلاعها سيقودنا إلي نتيجة مؤكدة وهي أن هذه الحرب تدار لتكون حربا طويلة الأمد ، فبجانب تلك التصريحات المباشرة سارعت الولايات المتحدة الامريكية إلي إنشاء منبر جدة لضمان السيطرة على أي وساطة لاحقة وضمان توجيه بوصلة المفاوضات ( التي لا يجب أن تكون جادة لإنهاء الحرب ) واتضح جليا من خلال سلوكها في منبر جدة أنها ليست جادة في حمل الطرفين على توقيع إتفاق سلام سريع ينهي الحرب ويؤسس للسلام ، إذ أنها لم تبذل أي مجهود لحمل الدعم السريع علي تنفيذ تعهداته بإخلاء الأعيان المدنية من المستشفيات والمؤسسات العامة ومنازل المواطنين كما تم التوقيع عليه في مايو الماضي ، ثم إنها لم تشرع خطوة واحدة في إنشاء آلية مراقبة وقف إطلاق النار والتي كان واضحا أنها هلامية وغير واقعية في متن إعلان جدة …
علي أن هناك مؤشرات أقوي ستثبت أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست راغبة في إنهاء هذه الحرب وليست مهتمة بإستقرار السودان ، وهذه بعض الشواهد علي ذلك ..
* نشطت الولايات المتحدة الامريكية في إسقاط النظام السابق وقادت التنسيق بين الدول الغربية وإسرائيل لإنجاز تلك المهمة تحت دعاوي نشر الديمقراطية ، ولكن وبعد سقوط النظام السابق اتضح ان الولايات المتحدة الامريكية غير جادة في ذلك ، حتي أن مجلة فورين بوليسي نشرت مقالا لمراسلها روبي غريمر تحت عنوان ( كيف أحبطت الولايات المتحدة الامريكية آمال الديمقراطية في السودان ) وجاء في ذلك المقال ( ربما كنا قادرين علي منع النزاع ولكن يبدو أننا لم نحاول )

* بعد آندلاع الحرب سارعت الولايات الامريكية بإجلاء بعثتها الديبلوماسية من السودان ، وهرعت إلي تأسيس منبر جدة للمفاوضات ، الذي ظلت دورات التفاوض فيه تنعقد وتنفض لمدة عام كامل الآن بما يشبه المزاجية ، وفي كل مرة لا يخرج منها أي موقف جديد ، بل سمحت الولايات المتحدة لتوالد المبادرات وتعدد المنابر من الإيغاد إلي الإتحاد الإفريقي والمنامة بما يشبه الملهاة في ظل تصاعد أعداد القتلي وازدياد معاناة المواطنين السودانيين ..
* وفي سلوك يشبه تعامل الولايات المتحدة مع السودان لعقود ويؤكد الزعم بنيتها إطالة أمد النزاع وإنهاك الطرفين قامت بفرض عقوبات منسقة مع حلفائها علي القوات المسلحة والمليشيا وكأنها تري أن الجيش النظامي الذي يقاتل من أجل السيادة وكرامة المواطنين يتساوي مع من تمرد عليه وأذاق السودانيين الويل والثبور ، وللتضييق علي الجيش نسقت الولايات المتحدة عقوباتها تلك مع كل من المملكة المتحدة والإتحاد الأوربي وكندا ، الأمر الذي يؤكد النية المبيتة لتكبيل الجيش عن القيام بمهامه الدستورية التي تجيزها القوانين الدولية ، والأنكي من ذلك أن أمريكا لم تكتف بفرض العقوبات ولكن وجدت أسلحتها طريقا لمليشيا الدعم السريع التي تتهمها بإرتكاب الإبادة الجماعية في دارفور ..
* وفي الوقت الذي تفرض تلك العقوبات تدير ظهرها عن الخرق البين للقرار الأممي 1591 للعام 2005 ، الذي يفرض حظر الأسلحة في دارفور بينما يقوم حلفاؤها الإقليميون بإغراق السودان بالأسلحة المميتة المقدمة للمليشيا في ظل تقارير دولية موثقة ومعلومات مؤكدة ، ولكن ولأن ذلك يخدم إستراتيجيتها القائمة على إطالة أمد النزاع فإنها لن تجرؤ علي إتخاذ أي قرار ضد الممولين …
* ولا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية تستنسخ تجربتها في سوريا حذو النعل بالنعل في السودان , فعندما تصاعدت الدعوات لتدخل امريكي يطيح بنظام الأسد بعيد إستخدامه السلاح الكيماوي كتب ادوارد لوتواك مقالا مهما في 2013 حذر فيه الولايات المتحدة من التدخل لإنهاء الحرب موضحا أن الخيار الراجح لخدمة المصالح الأمريكية هو إطالة أمد النزاع ، وشارحا فكرته علي أن إنتصار أي طرف سيضر بمصالح امريكا الآنية والمستقبلية ، بينما إستمرارها سيعني إستنزاف أربعة أعداء في الوقت نفسه وهم ( سوريا ، إيران ، حزب الله والإسلاميون المتطرفون ) ..
* في السودان تطبق الولايات المتحدة ذات الخطة علي إختلاف في بعض تفاصيل الفاعلين الرئيسيين في المشهد ، فهي تري أن إنتصار الجيش سيكون مدخلا لعودة الإسلاميين بما يمثله ذلك من تهديد للإستراتيجية الإسرائيلية/ الأمريكية في الساعية إلى إضعاف الدولة السودانية بحسب آفي دبختر وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق ( سودان ضعيف مجزأ وهش خير من سودان قوي وفاعل ) ..
* بينما تتخوف من أن إنتصار الدعم السريع قد يسهل لروسيا الوصول السهل إلي المياه الدافئة ، وهو ما صرح به الجنرال لانغلي قائد الأفريكوم في جلسة الكونغرس ( أكبر تحدي يواجه الإستراتيجية الأمريكية هو محاولة روسيا الوصول للبحر الأحمر وذلك بالتعاون مع الدعم السريع ) ..

إن علي قيادة الجيش أن تدرك أن التدخل الأمريكي في الأزمة السودانية إنما يسعي للسيطرة عليها بغرض إدارتها تحت سقف معين ملخصه تحقيق ( حالة اللاحرب واللاسلم ) ، وكذلك تحقيق هدف خبيث وهو تهجير المواطنين من مناطق معينة وفي مقدمتها ولاية الجزيرة بما تمثله من أهمية إستراتيجية في مشروع الأمن الغذائي ، والأمر كذلك فإن هذه القيادة تقع عليها مسوولية إسترداد القرار الوطني ونقل العملية السياسية بكلياتها للداخل السوداني ، بمعني إستنهاض الإرادة الوطنية الصادقة وتوظيف التعبئة المجتمعية الجارفة نحو تجاوز حالة الإنتقال الحالية لإقرار أوضاع دستورية تؤسس لوضع سياسي مستدام يتعامل مع التعقيدات السياسية والعسكرية في الداخل والخارج بكامل التفويض مما يمكن من محاصرة المخططات الرامية لإبقاء البلاد رهينة للحرب وينقذها من شبح التفكك والإنقسام ، وقبل ذلك الإسراع بإنهاء معاناة ملايين المواطنين من اللاجئين والنازحين الذين فقدوا كل مادخروه في الماضي ، ويسارعون الآن من أجل ألا يفقدوا المستقبل ..

Comments (0)
Add Comment